كلمة رئيس مركز الأبحاث والدراسات في كلية الآداب والعلوم الإنسانية

هل من المفترض أن تصبح الجامعة مركزًا للأبحاث محاطًا بقاعات للتدريس؟
الجواب عن السؤال نعم من دون تردد!
تتطوّر المجالات المعرفيّة في إطار براديغمات تتناسب مع البحث العلمي في حقبة معيّنة من الزمن؛ فالمدارس المعرفيّة، كالوظيفيّة والبنائيّة والبنيويّة… والمنهجيّات الوظيفيّة التحليليّة وغيرها من المدارس أدّت دورها في الحقبة الزمنيّة السابقة المتعلّقة بثقافة المطبوع. أما اليوم ، فدورها بدأ يخبو، وصرنا أمام حاجة منهجيات جديدة، ترتكز على ما سبق، وتراعي التعديلات المنهجية، خاصة وأنّنا بتنا في مرحلة الحساب والإحصاء في مختلف المجالات، بما فيها دراسة سلوكيّة الأفراد. لذلك، فإنّ أخذ هذه المعطيات بالاعتبار يحتّم علينا توجيه البحث العلمي نحو هذا المنحى، كي نؤسّس علومًا تعالج القضايا الشائكة، وتنظر إلى ما يجري من متغيّرات في سياقها الاجتماعي الحالي.
وكما نعلم، فإنّ الفكر البشري غير ثابت، متموّج، يشكّك به دائمًا، خاضع بشكل كامل لروح العصر. هذا الفكر يتبع التغيّرات، والتغيّرات بدورها تتبع حركة الفكر، ومن الممكن القول إنّ العديد من التطوّرات حصلت سابقًا في العلوم، ولكن ما زال هنالك الكثير لكي يُعرف ويُدرس. لهذا نحن بحاجة إلى أبحاث تؤسّس إلى فكر جديد، وإلى ثقافة جديدة تؤدي إلى بناء إنسان جديد محترس معرفيًّا ، يواكب حركة الإنتاج بشكلٍ عام.ولما كانت دراسة الظواهر الإنسانية ومراقبتها منطلق الدراسات في العلوم الإنسانيّة، وبما أننا نرى أن البحث العلمي حاليًا في العلوم الإنسانية يمرّ في لحظة حرجة، تفترض امتلاك القدرة على تحقيق ملاحظات أكثر تعقيدًا ودقّة على نطاق التفاعلات الفردية والمجتمعيّة المتخبّطة والمتأرجحة بين ثقافة المطبوع وثقافة الرقمنة من ناحية، وبين الفوضى والعشوائية والشك واللاحتمية، من ناحية أخرى. وهذا ما يجعلنا أحيانًا غير قادرين على كتابة العلوم على شكل قواعد ثابتة وحتميّة في العلوم الإنسانية؛ فحتميّة التقنيات، التي هي المسبّب الأوّل للتغيّر، أوقعتنا في صعوبة كتابة القواعد الحتميّة للملاحَظ.
وإذا كانت الثقافة تصوغ الشخصيّة الفردية والجماعية، يبقى أن نعرف كيفية إتمام ذلك من الجوانب كلّها عبر العلوم الإنسانية. وهذا هو البحث الذي من المفترض العمل عليه في الأبحاث العلمية التي نقوم بها.
ففي بداية القرن الحادي والعشرين، بات دخول التقنيات الرقميّة في حياة الأفراد بشكلٍ مباشر لا لبس فيه، من خلال التشبيك المعلوماتي والتمكّن من الوصول إلى المعلومات أولًا، ثمّ من خلال دخول شبكات التواصل الاجتماعيّ ثانيًا، والتوجّه السيبراني-الرقمي نحو بناء تطبيقات وبرمجيّات تطمح إلى محاكاة الذكاء البشري بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي ثالثًا؛ ودخلنا في مرحلة بناء رموز وإشارات تعبيرية واجتماعية وثقافية تتوافق مع الثورة المعرفيّة الرابعة التي هي حصيلة ثلاث ثورات تطوريّة رمزيّة-تمثلية سابقة( اللغة – الكتابة – الطباعة).
يطرح هذا تساؤلات حول تأثّر العلوم الإنسانيّة والأدبيّة بهذه التغيّرات، ودور العلوم الإنسانيّة في بناء مفاهيم جديدة تتناسب مع الرقمنة، تعتمد على المفاهيم الراسخة في العلوم الإنسانيّة وتتشكّل من خلالها.
لقد غيرت الرقمنة بشكل مباشر في بنية النص كبنية تمثيليّة للمعلومات، وحولت النص الى نصوص تشعبية، وبدلت القراءة من قراءة خطية الى قراءة انتقائية، ما أثّر في المجالات الإنسانيّة كلّها، لدرجة من الممكن القول إنّنا بتنا في مرحلة الحضارة الرقمية. وهذا يفرض على العلوم الإنسانية تجديدًا في البحوث العلمية على أنواعها، المتخصّصة في مجال محدّد، أو المتعدّدة الاختصاصات أو المتداخلة فيما بينها لمواجهة هذا الواقع الحضاري الجديد، وعبر ما يسمّى بالإنسانيات الرقمية بما تمثّله من منهجيّات وطرائق تتناسب مع التمثيلات الإلكترونية للبيانات، وللمعلومات وللمعرفة. ذلك أنّ التصميم العلمي للعالم الذي نعيش فيه بحاجة إلى التزام فكري؛ والفضاء الرقمي بحاجة إلى ثورة فكريّة في العلوم الإنسانية.
بناء عليه، لا بدّ من إرساء ثقافة البحث العلمي للباحثين وثقافة البحث العلمي التشاركي كلٌ بحسب وجهة نظره الفكرية، وباتجاه هدف وموضوع محدّد، يقدّم إمكانية معالجة موضوع ما من الزوايا كافة، لتصبح الصورة أوضح وتساعد في عمليّة تمثيل المعرفة، وذلك عبر القيام بدراسات متعددة التخصصات ومتداخلة التي تعدّ ملازمة في مرحلة الذكاء الجمعي، أي تضافر قدرات الباحثين ومهاراتهم وكفاءاتهم لحل مسألة معينة ومعالجة موضوع ما. على أن تتم ضمن فرق بحثية، لأنّ البحث العلميّ حاليًّا لم يعد ينفّذ من باحث وحيد في زاوية في مكتبة ما، وأن تخضع للإدارة وتنظيم المحاور والتجديد بشكل مستمرّ.
انطلاقًا ممّا تقدّم، تكمن أهميّة وجود مركز فاعل للأبحاث في العلوم الإنسانيّة والأدبيّة، تتداخل المعارف والقدرات والأفكار فيه وتتشارك، في سعي دؤوب إلى الانتقال من ثقافة البحث الكلاسيكي الفردي – المتخصّص في مجال معيّن، إلى ثقافة البحث الجماعي – التشاركي، بحث متعدّد الاختصاصات ومتداخلها، يُرسي ثقافة توظيف التقنيات في البحث العلمي، والتوثيق الالكتروني والتعرّف إلى المنهجيات البحثيّة الحديثة التي لم تعد أدوات “شكليّة” في البحث العلمي، بل باتت جزءًا من تشكيل المعنى وبنائه. المعنى الذي هو هدف كل بحث علميّ معاصر.
والبحث العلمي، بشكل عام، يتطلّب معرفة باللغة الأم، أوّلًا، ومعرفة باللغات الأجنبية، ثانيًّا، ومعرفة بالتقنيات وتفاعلاتها في الفضاء الرقمي- وفي فضائها السيبراني ثالثًا. وكلّها مهارات أساسية في البحوث المعاصرة، تشكّل مجتمعةً مصدرًا لتثبيت عالميّة العلم وخصوصية الثقافة. ولا تخفى أهمية استخدام التقنيات الرقمية على أنواعها في آليات البحث العلمي، كونها تمنح سلطة للباحث إذا فهمها وطوّعها، بما يتناسب مع عمله، وما يتناسب مع العلوم بشكل عام. وهنا يجب الإشارة إلى أنّ التقنيات بحدّ ذاتها سلطة وإنما القدرة على استخدام التكنولوجيا، والإفادة من البيانات للحصول على معلومات، من جراء استخدام المعرفة لإنتاج معلومات جديدة هي السلطة.
هذا ما يجب أن يكون عليه فعل مركز الأبحاث وتفاعلاته في كلية مشابهة لكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللبنانية، الكلية التي تتألّف من خمسة فروع ومركزين، وتضمّ ما يقرب الـ23000 طالبًا و 819 أستاذًا من حاملي شهادة الدكتوراه.
وهذا ما يجب أن يعبّر عنه من خلال مجلة دراسات جامعية في الآداب والعلوم الإنسانية الرقمية المحكمة التي تصدر عن مركز الأبحاث التابع للكلية فصليًّا، كون البحث العلميّ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية من المفترض أن يُقونن ويُؤطّر في أطر معرفيّة، ويُنشر ويُعرف به في العالم.
طموحنا أن ننتقل من توصيف الأكاديميين في الكليّة من صفة أستاذ إلى صفة أستاذ– باحث، بالفعل وليس بالقول!
فلا تطوّر في جامعة من دون تطوّر الأكاديميين فيها، وطريق تطورهم تمرّ عبر تطوّر بحوثهم العلمية.
الجامعة مركز أبحاث محاط بقاعات للتعليم والتعلّم.

أ.د. غسان مراد

اقرأ المزيد...